الأحد، 12 يناير 2014

كاسحة النقاط

بسم الله الرحمن الرحيم



كاسحة النقاط

إن حبي للنصر ليس وليد بطولة أو مباراة، إن حبي للنصر هو رحلة عمر عشتها بين أهلي وأقراني، عشتها وأنا أستمع للمباريات في الراديو وماجد يجلد خصومه والمعلق ينقل لنا الحدث بالمربعات، ومن ثم حضوري لأول مباراة أمام النجمة في ملعب الملز، وأقول بأني قد تعرفت على النصر في طفولتي قبل أن أتعرف على أي شيء آخر.
هذا المكتوب للعقلاء من متصدرين وغيرهم...ولو أني لا أحبذ الكتابة في الرياضة وبالأخص كرة القدم، لأن الناس لم تعد تفرق بين الميول وبين العدول عن الحقيقة، الميول مثلًا هو قولهم: النصر يتصدر بكم النقاط المحصودة مع أن نوعها –أي النقاط- يستحق وقفة. أما العدول عن الحقيقة فهو من قبيل القول: النصر يتصدر بنقاط لجنة الحكام. والثابت المثبت هو أن النصر متصدر، شاء من شاء وأبى من أبى.
مذ أن بدأ هذا الدوري (الجميل) بدحرجة كرته والنصر يتسيّد ويستأسد، ويتخم الخصوم ويكرمهم ويحسن ضيافتهم ولو أن بعضهم يقابل هذا الكرم بالتمرّد فيزيده النصر كرمًا إلى كرم، تصدر النصر فكان بلونه البرّاق المتربع فوق القمة كالشعلة الوضاءة التي أضاءت فكشفت عن بعض الوجوه التي اختبأت في الظلام سنوات وسنوات واللبيب بالإشارة يفهم، تصدر النصر فلهجت ألسن الشيوخ بالدعاء له، تصدر النصر فتصدرت كرة القدم الأخبار ونزفت لها الأحبار، تصدر النصر وانتشرت الوسوم على وسائل التواصل، تصدر النصر فنصّب كل فريقٍ نفسه وصيفًا له!، كل هذا وهو تصدر فحسب.
وبنظرة سريعة إلى سلّم الدوري وأنت تستمع إلى طلال مداح –رحمه الله- وهو يغني (أحبك يا نصر) ستصاب بوكزة بسيطة في المعدة تشبه تلك التي تنتابك وأنت تواجه موقف حب أصيل؛ النصر وطيلة الأشهر الماضية كان المادة الأشهى والألذ، نال منه البعض شبعهم وأصابت التُّخمة بعضهم الآخر، مع أن الهلال تسيّد فترة وكذا الإتحاد وكنت أبارك لهم بطيب خاطر، لكن وعندما تربع وتشيّخ النصر فرّ أولئك الذين باركت لهم في سالف الأيام إلى ما لست أدري!، ومن هذا المنطلق قد يعتريك ما يعتريني بأن النصر حالة خاصة من الحب والإخاء والعِداء، ليس لأنه الأجمل أو الأفخم أو الأمتع...لا..بل لأنه الأصدق، بجمهوره الذين أقاموا الدنيا وما أقعدوها حتى تاريخ كتابة هذه المقالة، وجمهوره لن يقعدها إلا أن يقضي الله بذلك.
إني أبدي اعتراضي على اللفظ المطلق على بعض الكتاب بغرض الانتقاص فيقال (هذا كلام جمهور)، الحقيقة أن الجمهور برأيي يبدو أرجح عقلًا من بعض الكتاب الصحافيين، فمن يقرأ لفلان وفلان، يعرف أنهم يجلسون في غرفة تغيير الملابس وليس في المدرج فحسب!.
من ناحية أخرى، أيها الإخوة...إن ما يجمعنا تعجز كرة القدم أن تُفرقنا عنه، تجمعنا أخوة الدين، وإنه مما يحز بالنفس والخاطر أن تجد الشتم واللعن يتسابقان فيما بيننا والفجور في الخصومة، اجعلها رياضة أذهان لا أبدان فقط.
بعيدًا كل البعد عن نصراويتي اللاسعة، وقريبًا كل القرب من كوني متابع رياضي... كل التوفيق للنصر ولجميع الفرق في قابل الأيام بإذن الله تعالى.

الأحد، 11 أغسطس 2013

العائلة المنتقاة

بسم الله الرحمن الرحيم




لك أن تقرأ هذه القصة وأنت تضع خلفية مثل (Hungarian Dance No.5).
حقيقة أنا جئت اليوم لأقول لكم بأن صديقي بندر يتوسد الآن فخذ زوجته في ماليزيا، بندر الآن في شهر العسل، خرّبها و تزوج!.
وحرصًا مني لأن تكون – عزيزي القارئ – في الصورة، وبين طيّات القصة، فسأقول لك كيف يبدو بندر .
بندر ليس أسمر، أو بُني، أو أسود ! أو حتى موف، لا لا أبداً، بندر لونه أشهب ( أدهس ) أحمس، وعندما جاء ليستخرج كرت العائلة كتبوا في خانة اللون هكذا(F0094# )، نعم لقد وضعوا كود فوتوشوب في خانة اللون، ذلك أن العين المجردة لا تستطيع تمييز لونه !؛ بندر هذا غبي جدًا يا جماعة، ليس غبيًا فحسب، بل يمتهن الغباء والبلادة، وأبرد إنسان رأيته في حياتي، هل تريدون دليلًا على بروده ؟ لكم ذلك . . ذهبنا قبل تقريبًا 8 سنوات أو تزيد إلى (دلّة) لاستخراج رخصة قيادة، في ذلك الحين كان المراجع يتبرع بالدم هناك، تبرع بندر وقالوا له تعال غدًا لإكمال بقيّة الإجراءات، وعند خروجنا قلت له: بندر، أسوق عنك ؟، فأجابني بالرفض، الأمر بسيط مجرد دم !، وفور خروجنا من دلة وعند أول إشارة أغمي عليه !، واصطدم في كابريس 2000 جديد لونه فضي، هل قلت اصطدم ؟، بل إن بندر قد قبَّلَ الجهة اليمنى للكابريس من الصدّام الخلفي مرورًا بالأبواب والرفارف و وصولًا للرفرف الأمامي آخذًا معه ما لذَّ وطاب من زجاج الأبواب والمرآة الجانبية وجنوط الكفرات !، النكتة أنه وبعد أن أفاق قال: أوف، بغينا نصدم !؛ ألم أقل لكم بأنه أفدغ مخلوق على وجه البسيطة !، بندر بليد في الدراسة جدًا، بل إنه مُعضلة وزارة المعارف !، عندما دخلت المدرسة لأول مرة كان بندر في الصف الرابع الابتدائي، وصلت إلى رابع وهو لم يتحرك، درست معه في نفس الفصل، أتذكر أنه كان ينام بأي شكل وعلى أي وضع، ينام وهو واقف، وهو يمسح السبورة، وهو في الحمام، وهو يلعب في حصة التربية البدنية، ينام حتى في صلاة الظهر !، ينام في الاختبارات، بل إنه غاب مرة عن المدرسة ولما بحثوا عنه وجدوه نائمًا على عتبة باب بيتٍ قريب من المدرسة!!!، لقد نام وهو يمشي قادمًا إلى المدرسة !، هذا محزن جدًا؛ كان يحاذيه في الفصل صديق لم أستطع نسيان اسمه بعد هذه الحادثة، كان بندر كالعادة نائمًا في حصة القواعد، كان معلمنا الأستاذ/عبد الرحمن الربيعان، عندها لمح الأستاذ بندر نائمًا، فأقامه وسأله عن شيء يخص الدرس قائلًا( أين كان أحمد ) أو شيء كهذا، وطلب منه الإجابة وبسرعة، اللَّعين الذي يجلس بجانب بندر وكزه وقال له بصوت خفيف ( فوق الشجرة.. فوق الشجرة)، فقال بندر وهو فرح (فوق الشجرة!!)، عندها انفعل الأستاذ وحذف بندر بممحاة السبورة!، طبعًا نجحت في الصف الرابع، وتخرجت من المتوسطة، ووصلت الثانوية، وتخرجت منها، وجلست أكتب أمامكم اليوم وبندر لا يزال يلبس الثوب فوق ترنق الرياضة !، كان في بندر لزمة مشهور بها وهي ( قيقْ )، نعم يصرخ هكذا فجأة ( قيقْ )، حتى صاروا يطلقون عليه لقب ( أبو قيقْ )؛ تقول الأسطورة أن بندر كان يذهب مع والده للصلوات وهو صغير، وفي يومٍ ما وفي صلاة العصر بالتحديد وعند التشهد الأخير ظهرت أولى بوادر هذه اللَّزمة عندما صرخ بأقوى ما فيه ( قييييييقْ ) تردد صداها عبر مكبرات الصوت ليسمعها سكان البديعة والعريجاء ولتتجاوز شهرة ( وا معتصماه )، المصيبة أن والده في تلك الصلاة حاول إسكاته ولكن بندر تخلص بطريقة أو بأخرى من قبضة والده وأخذ يجول في المسجد وهو يقفز بين الصفوف ويصرخ ب ( قيييقْ ).. (قيييقْ).. إلخ، الكل كان يظن بأن بندر على وشك أن ( يبيضْ ) !؛ بندر مخفّه، زلابة، على ما وهبه الله من جسد كالبغل إلا أنْ له قلب عصفور، فكم مرة ضُرب حتى عضّ الأرض ونواتها، وكم مرة فركوا أنفه في جدران المدرسة والمقصف !، لكن الذي لا تتناطح عليه عنزان هو غباءه، فلا تراهن عليه كما فعلت ذات مرة عندما قال أحدهم سأقنع بندر بوجود ( ماسنجر ) مستعمل يريد صاحبه أن يبيعه في محل للاتصالات، فذهب بندر بلا تردد وسأل صاحب المحل ( يقولون عندك ماسنجر جديد ؟، بس بالله بطاريته زينه أو لا )، طبعًا بندر أضاف جملة ( بس بطاريته زينه أو لا ) ليتأكد من أنَّ صاحب المحل لن يخدعه، وأنه يعرف ( الكُفت)!!.
كان بندر يطمح أيام البحث له عن شريكة للحياة في فتاة بيضاء !، لا يهمه أي شيء آخر !، قصيرة أو طويلة، كبيرة أو صغيرة، مريضة أو صحيحة، لا يهم، يقول أريد بيضاء ولو كان بياضها ( بهاقْ )، ولكن بعد أن طالت مدة البحث رضي أن يخنع للأمر الواقع، وتزوج بفتاة – يُقال – أنها تُشبه.. (محذوف).
صفات بندر اكتسبها من ذويه، أمه وأبيه !، بدريّه وسيف، لديه أخ اسمه صخر وآخر أصغر منه اسمه شهاب وأخت اسمها سوسن !، سوسن هذي سمّاها الأب وهو في رحلة علاج بمصر، أما الأخوين فلا أعتقد أنه سماهما وهو في رحلة للفضاء !، عمومًا هي عائلة من العوائل التي تسكن أرض العريجاء؛ أمهم بدريّه – أطال الله بعمرها على الطاعة – أشهر أمهات الحارة، أما الأب سيف، فقد بدأ حياته في قيادة التاكسي، حتى يُقال أنه وفي أول أيامه بالتاكسي كان الناس يستوقفونه قائلين ( تاكسي، تاكسي ) فيرد عليهم قائلًا( عارف، عارف أنه تاكسي، ياخي ذا العالم أول مرة يشوفون تاكسي )، جلس يقود التاكسي 4 سنوات لم يربح فيهن فلسًا، ذلك أنه لا يقف لمن يقول له (تاكسي، تاكسي).
نعود الآن لبندر وشهر العسل، فهو يهاتفني يوميًا ليعطيني آخر الأخبار ولأقوم بالمتابعة وإعطاءه الأماكن المناسبة عن طريق الإنترنت، أكثر ما أضحكني أن بندر لا يرد على هاتف الغرفة في الفندق خوفًا من أن يقع في حرج مع زوجته وهو يهاتف موظف الاستقبال، فهو لا يدري بأن هناك لغة أخرى اسمها اللغة الإنجليزية، فما بالك بأن يتحدثها !!، عند قدومه للفندق أراد حجز غرفة على قد حاله، سرير لنفرين ومُطلة على المسبح، فأخذ يتكلم الموظف بالإنجليزية وبندر يقول ( يس، نو، يس يس، نو نو )، يقول أني كنت أُجيب ب (يس) إذا كانت نبرة الموظف هادئة، و (نو) إذا كانت عالية !، يقول آخر الأمر أخذت الموظف لغرفة المساج، فقلت له نو نو، ثم أخذنا للنادي الصحي، فقلت أيضاً نو نو، آخر الأمر أخذ بندر الموظف إلى الأريكة ونام عليها وقال يس يس !، فأخذهم للغرفة أخيراً ؛ ذهب بندر إلى البحر واستأجر دبابًا بحريًا، وهو الذي لم يره قبل ذلك في حياته، من المعروف أن دباب البحر لا ينعطف إلا في حالة أنك (تدوس بنزين)، أما غير ذلك فهو لا ينعطف البتة، يقول بندر ركبت أنا وزوجتي المصون واتجهت إلى نصف البحر حيث لا أحد يرانا، ثم توقفت وأخذت أبادل زوجتي القُبل والكلام المعسول حتى فرغنا، ثم اتجهت عائدًا، ومن نشوتي وفرحتي كنت مسرعًا جدًا، ففكرت أن أُبدي بعضًا من الجنون لزوجتي وأثبت لها أني بارع في قيادة الدبابات البحريّة وأني أملك واحدًا في مزرعتنا في حريملاء!!!، فاتجهت بأسرع ما يمكن ناحية الصخور على رصيف الشاطئ، ولما اقتربت حاولت الانعطاف يمنةً ولم ينعطف الجيت !!، لم أستطع التفكير ولا أذكر ما حدث، يقول بأن الدباب أقلع من على الصخور إلى الشارع العام ونحن فوقه، وبعد أن حط فوق الإسفلت جاء دورنا لإكمال الرحلة ناحية الأشجار، زوجتي في شجرة موز وأنا جوز هند !.
ذهب بندر ليتمشى في أسواق كوالالمبور الكبيرة، ويعرف زوجته من حذائها - أكرمكم الله – والذي ابتاعه قبل أيام من كوالالبمور نفسها، يقول مررنا بجانب محل للألعاب فسبحت في خيال أنه جاءني ولد، ثم تنبهت فلم أجد زوجتي بجانبي، فأخذت أبحث عنها وأنا أنظر لأحذية النسوة، فوجدتها أخيرًا في محل لبيع العطور، دلفت وأنا أتبسّم وأردت ملاطفتها، فقربت من أذنها ولمست مؤخرتها وأنا أقول ( تنحاشين عني يا قلبي ) !، حسن يبدو الأمر واضحًا، لم تكن زوجته !، ولكم أن تتخيلوا ماذا حدث له.
في إحدى الليالي ذهب بندر بعد أن نامت زوجته إلى ملهى ليلي، ليختلي بنفسه قليلًا – على حد قوله-، فعاقر الخمرة وشرب حتى أصبحت نسبة الدم في الكحول 2%!!!، وفي آخر الليل خرج من الملهى ومعه فتاة، وركب مع التاكسي وأعطاه كرت الفندق، وصل إلى الفندق واتجه صوب غرفته التي تنام فيها زوجته !، فتح الباب ودخل ومعه الفتاة، فقابلته زوجته المسكينة والتي باتت ساهرة تنتظره !، يقول بندر بأن تلك اللحظة كانت أشد لحظات حياته ذكاءً وحنكة، أتدرون ما قال ؟، لقد قال :
(شوفي هذي شغالة بنخليها معنا لين نرجع الرياض!!!!)

انتهى، لكن بندر ليس كذلك.

الجمعة، 9 أغسطس 2013

بلاك ما تعرف السويدي


المملكة العربية السعوديّة
الرياض حي أم سليم
غُرة شوّال 1400هجري

ولادتي التي كانت في حي أم سليم، بالتحديد من بطن والدتي إلى الشارع الذي كان هو الحضانة وترابه هو سريري، أم سليم وقتها كانت كـبراشوف، بساطة موغلة في الفقر والعوز، الريال الذي كانت ألفه كي يبدو أكثر، وشراب الكعكي كولا أيَّام الجمعة، وجارنا اليمني السّكير، المُبكي في الأمر أنني في أيَّام الشتاء القارص كنت أخرج للمدرسة باكرًا عنوة كي ألحق على إفطار صديقي مبارك وجدته هيلة، الفول الحار الذي وددت أكثر من مرة أن أُلطخ نفسي به ليحميني من البرد الناشف الذي يَدُك العظم دكّا.
طلعات البر في منطقة بنبان و صلبوخ و ظهرة الزدْيّه لا تزال في الذاكرة بكامل تفاصيلها، الجاكيت الرصاصي المقلم، والثوب الأصفر، والشعر الذي لا ينبت أبدًا أكثر من 2 سم، الأشمغة الحمراء جدًا الأيادي المتسخة والأظافر السوداء، الخِراف النجديّة الكثيرة، الإبريق الرصاصي الكبير الأشهب، المطارح الصفراء ذات الورود الحمراء، والبطانيّات الخضراء العسكرية، العيشة الرضيّة، وأشرطة حجاب و خلف بن هذال وبشير، الحديث عن تلكم الذكريات أشبه ما يكون برسم لوحة في الهواء، بل أشبه بلعبة بدون كلام، حركات بلا معنى، وإيماءات مُعاق.

المملكة العربية السعودية
جنوب الرياض حي السويدي
صفر 1422 هجري

كلما ادلهمَّ الظلام، وخيَّم الهدوء وسَكَت صوت المؤذن بعد آذان العِشاء، كنت أخرج لأجوب الطرقات مع صديقي سعود على سيَّارته من النوع بيجو، تلك البيجو التي تنال في كل يوم كمًا هائلًا من الضحكات وحركات الاستهزاء من مالكها صديقي سعود، يقول أن هذه البيجو باستطاعتها الرجوع لبيتهم دون أن يقودها، وأنه لا يخسر شيئًا من الوقود لأجلها فهي آكلة للأعشاب؛ ليلة بعد ليلة، وعلى ظهر بيجو أحمر مائل إلى لون الحنَّاء الذي يخضب أصابع النساء، وطرقات السويدي الملفوفة بخرق سوداء، وأعمدة الإضاءة الصفراء الخافتة، والكثير الكثير من سيّارات الداتسون، شوارع السويدي التي يطوّقها الظلام حتَّى في أكثر ساعات النهار نورًا، مطابخ المندي والمظبي التي تُغذي بطون أصناف متعددة من البشر، الفقير والبسيط، السعودي والبنجالي، النصّاب والصادق، المختل عقليًّا والصحيح، والكثير جدًا من العزّاب؛ الحفريّات التي تُزين شوارع السويدي بُنيت على جثث جماعيّة لأقوام ماتوا من القهر والكَمد، سِرْ خصوبة الأراضي هناك بالتأكيد هو سَماد هذه الجثث؛ ومما يُثيرني في السويدي أنَّهُ ينفرد بالصدارة كونه أكثر الأحياء تفريخًا للإرهابيين.
قراءة حيّ السويدي لا يقوم بها إلا 5 أصناف من البشر، فإما عربيد مُفحط، أو إمام مسجد يُقيم الصلاة في غير وقتها، أو فقير يمشي على أربع من شدة الفقر، أو رب أُسرة لا يعرف أسماء أبناءه، وأخيرًا بنغالي مُخنث. وأنا من الصنف الثاني!.
فقد عرفتُ هذا الشيء الذي نسميه دينًا في سن التاسعة، عندما دعاني أحد الذين غابت شمسهم لحلقات التحفيظ في مسجد الحارة المجاورة، لا زلت أذكر تفاصيل تلك الرحلة تمامًا كانت في طريق المدينة المنورة، ركبنا سيّارة جمس تغص باللّحى والكثير من زمازم الشاي وحِزم الكتب و أوراق الأسئلة الثقافيّة، كانت الوجبة في تلك الرحلة عبارة عن بسكوت الشمعدان، كل 4 أشخاص في قطعة واحدة، أعتقد أنه كان تدريبًا عسكريًا بحتًا.
أعجبني فيهم الانضباط، وحُبهم لبعضهم أكثر من حبهم لأنفسهم، اعتزمت على الانخراط ونبذ كل أصدقائي الذين يُحرضونني على تفويت الحصص الأولى في المدرسة، وسرقت المال من جيب ثوب أبي وقت الظهيرة، نفث الدخان من الأنف والفم في آنٍ واحد، نعم نعم، أذكر المُحرض الأكبر فيهم، كان اسمه عَزَّام، كان بدينًا خسيسًا ويلبس دومًا فانيلة المنتخب الألماني الفائز بكأس العالم 1990م، كم مرة تمنيت أن أحصل على واحدة مثلها.
قضى الله أن يتبرَّعَ أحد المُتصدقين لبناء مسجد في الحارة بعد عامين، ولأن حارتنا تَعج بالمعتوهين من لوطيين ومشفطين ومجرمين لم يكن أمامهم إلا أن يختاروني مؤذنًا تحت التدريب، فكنت أرفعُ الآذان لصلوات العصر والمغرب والعشاء والفجر، أما الظهر فقد كانت المدرسة تمنعني من ذلك، بالرغم من أن فكرة ترك المدرسة راودتني كثيرًا عملًا بالقول ( من ترك لله شيئًا أبدله الله خيرًا منه ) لكن خوفي من مسدس الـ 9 ملم الموجود في خزنة الوالد كان يظهر لي دومًا كخلفيّة لهذه الفكرة؛ كنتُ أحيانًا أرفعُ الآذان وأُقيم الصلاة إمامًا، كنتُ أحفظ من كتاب الله ما يقارب العشرة أجزاء تلفتت الآن– لا حول ولا قوّة إلا بالله تمامًا، حتَّى أني الآن أحيانًا أُخطئ في الكوثر؛ الكثير من اللوم والعتاب وجهَ لي بسبب رفعي لصوت المُكبرات فوق المئذنة حتَّى أجعلها تصل لأذن عزَّام وحاشيته، ليس لأجل أن يهتدوا مثلًا ولكن نكايةً بهم.
للأسف أني انخرطت في سلم الدين بشكل سريع، بسرعة البرق، فلم تعد تُعجبني حلقات التحفيظ وكثرة المنتسبين ومن بينهم عزَّام - لها لأجل كسب ود القاصر محمد، أو المكتبات التي تجعلك كابن بطوطة، كل ساعة في مدينة، وكل دقيقة قطّة، ففضلتُ الانعزال التَّام، حيث حددت موقفي بأن يكون إمامًا للمسجد وصديقًا لمجموعة من اللِّحى الغانمة كما اسميهم -، وكنت أقضي أيَّام الأسبوع إمَّا غارقًا في قراءة التراجم والتفاسير أو نائمًا أو مُمسكًا بفنجان قهوة وأتبادل الحديث مع والدتي حفظها الله -، أما أيَّام عطلة نهاية الأسبوع فكانت في البَر، والبَر فقط حتَّى في شدَّة القيظ، كنَّا نحتمي من حرارة الشمس في مغارة كبيرة بإحدى القرى القريبة من مدينة الرياض!.
وهكذا سارت السنون، ومرت مثل مر السحاب، سريعة وهادئة، كأنَّها رسم تخطيطي لقلب إنسان متوفى، مستقيمة و صامتة.
ومَنْ مِنَّا لا يعرفُ مدرسة الإمام الجوهري !!، مجرد مرور هذا الاسم) ثانويّة الإمام الجوهري ) يجعلني أُحلِّقُ في فضاء مليء باللِّحى، الكثير من المنشوّرات، الضدان يجتمعان في هذه المؤسسة التعليمية / التدريبيّة، السافل اللئيم المنافق الكافر والمتدين المتطرف جدًا، لا يوجد حل وسط في هذه المدرسة، حتَّى الطاولات والكراسي، التحقت بتلك المدرسة الثانويّة، مرَّت السنة الأولى التي كان يُدرسني فيها مادة الأدب قريبٌ لأحد المطلوبين، الأستاذ/ عبد الرحمن، القصير صاحب اللّسان السليط، لم أكن أعرف وقتها ما هي ( يا مسهرني، ألف ليلة وليلة، سيرة الحُب )، كان يخرج عن الدرس كثيرًا ليتحدث عن أم كلثوم هذه، كنتُ أظن في بداية الأمر أن المقصودة هي بنت رسول الله رضي الله عنها -، وتداركت بعد ذلك أن المقصودة هي مُطربة!!.
كان الأستاذ/ عبد الرحمن عندما يدخل الفصل يضعُ شماغه بشكل ( لطمة )، كان (عربجيًّا ) لا محالة، يطلب منّا باستمرار قراءة القصائد ونحن نستمع لأم كلثوم، والذي يُسمع له أغنية كاملة من أغاني أم كلثوم ستكفيه عن حفظ قصيدة من قصائد المنهج المُقرر، صدقًا.
أهداني هذا العبد الرحمن أوَّل كتاب غير ديني -، كان الكتاب بعنوان ( في سبيل التاج ) لمصطفى لطفي المنفلوطي، وكتب عليه الإهداء التالي:
إلى الطالب النجيب: .............................
أيامٌ جمعنا فيها العلم، علّنا عليه نفترق.
أُستاذك / عبد الرحمن
حقيقة، لم أكن أنا الوحيد الذي نال هذه الهديّة، كان هناك طالب آخر اسمه/ سعود، ولكن كتاب سعود كان مختلفًا، كان مجموعة من أوراق الـ A4، وفيه جميع كلمات أغاني أم كلثوم، لا أخفيكم تمنيتُ جائزته، لا لشيء إلا لرغبتي في حفظ أغانيها لأجل درجات المادة.
حصلت على تقدير ممتاز في الصف الأول ثانوي، ومن العشرة الأوائل على الصفْ، والثالث على الفصل؛ سعود أخفق في اجتياز الأول ثانوي، الطّامة أن سبب رسوبه كانت مادة الأدب .
في عائلتنا، يُعتبر عيبًا أن تنتسب للقسم الأدبي / الشرعي، يجعلك ذلك تحت دائرة الضوء، كأنك رجل متزوج وأمضيت 4 سنوات بلا أولاد، نعم صدقوني، نظرة قاصرة أعرف ذلك، لكن ماذا أفعل؟!.
كانت رغبتي هي مواصلة الدراسة في القسم الطبيعي / العلمي، لكن محاولات الأستاذ عبد الرحمن لأجل إقناعي والانتساب في القسم الشرعي كادت أن تفلح لولا استعانتي بوكيل المدرسة و رئيس الهيئة في نفس الوقت الأستاذ والجلّاد في آنٍ واحد / صالح الذي فكّني من عبد الرحمن و بلاويه.
أكملتُ الدراسة وتخرجت من الثانويّة العامة، بتقدير "جيّد !!!".
أنا الذي كنت لا أرضى إلا برؤية اسمي في لوحة الشرف مقابل المقصف، وشهادتي تقديرٍ وتفوّق في نهاية كل شهر، أحصل على تقدير " جيّد " مع الرأفة، أنا الذي أحفظ أجزاءً من القرآن أحصل على 51 فيه!!. في الأمر سِرْ!. نعم؛ وأنا اليوم أوشك على إذاعته، وأنْ يكون خبرًا.
تُرى، هل فكّرتُ، ذات يوم، بأن سعود الغبي وعبد الرحمن الأخرق، الصديق والأب الروحي، كانا إنسانين يملكان حياةً أخرى، غير التي أراها؟!.
تصرفاتهما زادت غرابة، والأسئلة حولهما تعددت، بشكل استدعى أن ابتعد ابتعادًا كاملًا عن إمامة المسجد، وانصرف عن كل ما يمت للدين بصلة؛ والجدير بالذكر هُنا، أن سعود الغبي صار ذكيًّا وعبقريًا ومضطلعًا في علم المتفجرات، وعبد الرحمن الأخرق كان ذا دعمٍ لوجستي لا يقوم به جنرال من جنرالات الجيش الأمريكي؛ قُبض على سعود وكذلك عبد الرحمن، كلاهما يقبعان الآن في السجن منذ أمد طويل !! كلاهما يَسبق اسمهما الوصف ( إرهابي ).
سعود البدين، المتذمر والخامل يفعل هذا كله، أيّ قوة في الأرض تستطيع تلوينه هكذا، وعبد الرحمن الأخرق، السمّيع لأم كلثوم، يسكن داخله رجل كهذا، عشتُ باقي مراحل الدراسة الثانويّة وأنا كالأعشى، الليل يمشي بآنائهِ وأنا أُحملق في الإهداء الذي كتبه عبد الرحمن بخط يده على مجلّد كتاب ( في سبيل التاج )، والصبحُ يسربل أشعته وأنا مسمِرٌ ناظريَّ في صور الرحلات البريّة مع سعود وهو يطبخ، كنت أتوقعه لا يجيد غير الطبخ والنفخْ!!.
هذا ما تفعله أرض حيّ السويدي بالسكّان المتعطشين لكل أمرٍ غريب !! ولا عجب في هذا، فهم قومٌ يهيمون في شوارع ممدودة متسخة لا نهاية لها قد اعتبروا، مُذ أبصروا النور هناك، أنَّ نهاية شارع الأبراج هو نهاية هذه الدنيا، وأنَّ ما بعده برزخٌ لا خير فيه، هذا الإحساس يجهلهُ من عاشَ فِي حيّ الشفا والدخل المحدود، أو المُترفين في شماليّ الرياض وشرقيه؛ وبقي إجلالهم للمساجد المبنيّة من ( الشينكو ) الرخيص حتَّى يومنا هذا.
عزَّام، ماتَ أبوه تاركًا وراءهُ ثلاثة أبناء رابعهم عزَّام وهو أكبرهم، فأثقلوا كاهله أيما إثقال، حتَّى وصل الأمر به إلى أن يتجاوز نهاية طريق الأبراج طلبًا للرزق، فحاول في كبائن الهاتف ولم يُفلح، وعَمل في المبيعات لدى محلات البطحاء ونال نصيبه من الفشل الذريع، فما كان منه إلا أن يُتاجر أخيرًا في بيع الحبوب و صواريخ الحشيشة، وها هو اليوم أصبح أعظم شأنًا من ذي قبل وأطولنا باعًا في التجارة وذا تأثيرٍ كبير في الحارة.
إنَّ أكثر الأمور عجبًا وغرابة هو أن تلك المخيّلة الخلَّاقة المُبدعة للأستاذ عبد الرحمن لا تزال تراودني مع كل أغنية لأم كلثوم، وكل كتاب يقع بين يدي؛ وعبقريّة سعود تزورني كلما شاهدتُ أكواع المواسير الصدئة و الألعاب الميكانيّكية الذكيّة.
وإلى جانب هؤلاء كلهم، يقبع موسى في بيتهم كالآنسة، ويتفرغ بيركامب البدوي لمتابعة القنوات الأوروبيّة الجنسيّة، ويكرّس عبد الله حمد وقته لتلميع سيّارته الهوندا، ولا يدرون بما حصل.
هناك أسئلة عديدة تردني دومًا من الأصدقاء بعد إلقاء هذه القصة، أسئلة تطرح نفسها على العقول بذاتها : كيف يمكنك العيش بعد هذا كله، كيف تمكنت من الوصول إلى هذه البحبوحة من العيش، والانطلاق تلك الانطلاقة الشمّاء، والتفرد؟!.
كانت إجابتي تقتصر دومًا على القول: " بلاك ما تعرف السويدي!!".

الأربعاء، 7 أغسطس 2013

الخبث واللكاعة




الأفعالُ في بدايتها تصدر عن تفكير وتركيز ( الكلتش والبنزين مثلًا) !، تتحول بعد ذلك إلى ( عادة ) تصدر عن العضو نفسه ( القدم )، من العقل الواعي إلى العمود الفِقري !، من العمود الفِقري كبداية، هذا إن كنت فقاريًا!.
اذهب إلى الدكان، خُذ قطعة تويكس مثلًا!، امضغها ..! لا شيء! لا طعم!.
عُد بذاكرتك إلى أيّام الطفولة، حينما كانت الريالين ثروة، تلفهما ليبدوان أكثر، تمرُّ على الأطفال مزهوًا وأنت تُردد: ( ثِفْ معي فلوث كثيرة ) على افتراض أنك أثرمْ ! -، تذهب.. تتقافز إلى الدكان، ترى تويكسًا كيسهُ ذهبيٌ يلمع !، تُعطي الهندي ريالين وتأخذ التويكس وبنصف ريال ( علك ).
تحس أنك ملكت الدنيا بكل ما فيه ، وحُزت المجد من أطرافه، قد تأكل الحلوى في طريق عودتك لقلّة صبرك، وقد تتصبر لتقهر الأطفال الآخرين في البيت، حتّى تعمد الإغاظة كان ينضح بالبراءة، الطفل الآخر لا يحقد عليك !، سيفكر هو الآخر بطريقة عمليّة أكثر ، سيذهب إلى أمه ويطلب منها ريالين.
 كيف كان طعم الحلوى في ذلك الحين ؟!، أغمض عينيك وركز، ستجد أنَّ طعم الذكرى أحلى وألذ من طعم الواقع !، وهكذا تفقد الحياة معناها.
دعكَ من الطفولة، لقدت فقدت كلمة الطفولة معناها بدورها لكثرة ما يرددها المرددون؛ أدور في كل شيء تقريبًا، المدرسة، أهلي، السيّارة، فهد وسلطان، حمدي وتصرفاته التي تنمُّ عن دناءة، وناصر ونكتته الحاضرة، والدكتور عبد العزيز و ( قفطاته )، والدكتور فتحي الملعون، بل حتّى مبارك البزرنجي !!.
كل هذا لا تجوز كتابته ، لكن سأتحدث عن الخبث.
(الخبث هو سيّد الأخلاق) وَ (اللكاعة هي قمّة الذكاء).
حسنًا أعترف، لقد انتظمت في صفوف حزب اللكاعة، وأنا لا أعرف رئيس الحزب ولم أره في حياتي، يُقال أنه إبليس الرجيم !، وسمعتُ إشاعات تقول أنهُ شخصٌ من ربعنا، وقد أصبحت من جلاوزة اللكاعة وأباطرة الخبث .
هل تُقدر الماركات ؟!، أنْ تكون شخصًا يعتمُّ بما يلبس، وكيف يرمقه الناس؟ وكيف يقولون: ( شف شف، لابس ساعة شانيل أو بدلة أرماني ) ؟.
ما بال هذا يرمقني بهذه النظرة ؟!.
سكسوكة، وبدلة من أرماني !، فرحٌ أنت كثيرًا بنفسك ؟!، ترفع طرفي شماغك وكأنك تتجهز للطيران، تبي تشخّص !.
يس لكَ في الحسن أمل، ألا ترى كرشتك ؟، ألم يُخبرك أحدٌ عن حجم مقفّاك واكتناز إليتك بالشحوم ؟!.

بذاءة في القول والفعل والتفكير، الحياة قذرة لكنني ما زلتُ متعلقٌ بها، رغم أنَّ شيئًا فيها لا يخلو من شائبة .

لقد شُفيت وأنا أفكر فيك



يروي أحدهم قائلًا:

"تعرض إنسان غير صالحٍ بطبعه إلى الشللِ في العام 2003 تقريبًا، على أثر حادث قوي أدى إلى إصابته في فمه وعقله وقلبه، الحادث كان في طريق مهجورة لا يسلكها سوى الذين في قلبهم مرض، كان ذاهبًا مع ثلّة من أصدقاء السوء إلى إحدى الحفلات المختلطة، بعد الحادث لم يزره أحد من أصدقاءه إياهم، وبعد عرض حالته على جمع من الأطباء كانت إجاباتهم وافية وكافية على وجههم، مرضه لا شفاء منه.
تعرف صاحبنا غير الصالح في تلك الفترة إلى أناس كان الصلاح مبدأهم وأساسهم ، سبيلهم ومنهجهم، وتمضي الشهور والسنوات وهو معهم.. ثم شفاه الله جلّت قدرته-.

وبعد شفاءه على الفور عاد الإنسان غير الصالح إلى أصدقاء السوء إياهم مرة أخرى، بل إنه عاد إليهم بحفاوة أكبر من ذي قبل، إذ عبر في أول لقاء بينهم قائلًا: (لقد شُفيت، لقد شُفيت لأني أُفكر فيكم وأنا مع الصالحين).

الثلاثاء، 6 أغسطس 2013

صديق العمر





عشتُ في الشارع، لكنني لم أتخذ فلانًا خليلا، ولم أضع الحشيشة مرة في فمي على الرغم من المرات العديدة التي رأيت فيها بعض الأصدقاء ( يفرطونها )، ولم أشارك في حملات التفحيط، ولم أضع العائلة يومًا في موقف محرج أو كُربة من كربات الشباب التي تسود لها الوجوه، وبالمناسبة وعلى الرغم من وجود ( السياكل ) في وقتي إلا أنني لم أمتلك واحدًا منها، فأنا أمقت كل من يملك سيكل، ولو أنه وسيلة تنقل رهيبة ودفعة رياضية مفيدة إلا أنني لم أقتنع بفكرة أن أضع مؤخرتي على تلك الوسادة الصغيرة وأجعل الرائح والغادي ينظر إليها !، بالرغم من صغرها وخلوّها من مسببات الفتنة !؛ كانت حياتي الدراسية سيئة جدًا، شارد الذهن على الدوام، أنتظر الفسحة لأدخن فقط، وأعود للفصل لأفكر من جديد في التدخين، لذا كان الدخان شغلي الشاغل وهمي القاتل، يقطع هذا التفكير أحيانًا تساؤل صديقي بندر عن أي مرحلة دراسية نحن فيها - من شدة ضياعه - فأحمد ربي على النعمة التي أنا فيها وفعلًا من يرى مصيبة غيره تتضاءل مصيبته في عينه .. أما بندر فمعه تختفي مصائبي كلها وتصير نسيًا منسيا، فبندر جمعَ الحمق والغباء والبلادة وخلطها مع سواده ورائحته العفنة ثم سكبها في إناء الجمود والسذاجة، فكان طبقًا لا يستطيع الإقبال عليه أحد، لذا كان صديقي الصدوق الذي لا يملك أي صديق آخر، وكي لا أبخسه حقه فقد كان هو الوحيد - حتى الآن - من يستطيع أن يُضحكني حتّى أنقلب على ظهري، زدْ على ذلك أنَّ أمه - بدريّة - هي من تجعلني أزحف على أنفي أتبع رائحة أكلها في أحياء الرياض، كان أكلها لذيذًا وكأنها تعلّمت الطبخ في دار من دور الخلافة العباسيّة، كيف لا وهي الوحيدة حتى الآن التي تقوم بـ ( رقْ ) المرقوق بيدها، بينما البقيّة يشترين قرصانًا جاهزًا فتفقد الأكلة نكهتها ؟!!، كانت تتعب في الطبخ، تؤدي بهمّة وكأنها في أولمبياد للأكل، تستخدم (بوتاجازًا) له أكثر من 11 عينًا والعين الواحدة يقعدُ عليها أكثر من 16 قدرًا، حتّى القدور تتلذذ بطبخ بدريّة وتتسابق لتحتضن وصفاتها وخلطاتها !!!، وربما لهذا السبب تزوّج عليها زوجها، فهي تولي الطبخ كل اهتمامها، وبندر - والله أعلم - كان نتاج طبخها لليمون الأسود!!.

 والديَّ لا يعرفان متى الاختبارات، أصلًا والدتي لا تُجيد القراءة ولا حتّى بطريقة براين وأبي منغمس في عمله الثقيل، فكان الحضور للمدرسة مجرد دوام بلا راتب، وهو فرصة لفرض النظام في يومي المشلول، ولأنني كنت أجيد الكتابة على الجُدران كونت ُمجموعة من الصداقات مع من يكبرني سنًا واتفاقيات في سبيل أن أكتب له على الجدار مثلًا ( أحبك يا عبادي، يا روحي يا حرف العين )، بخط متأنق يقرأه الأعمى، وأحيانًا أكتب مقابل مبلغ مالي خصوصًا إن كان الذي يُريد الخدمة لا يملك مواصفات الفزعة، فأشتري أبكاتًا متنوعة وأجرب هذا وذاك، حتّى أصبحت رئتي مثل كيس الفحم - كما أظن -، وتمر السنون.. وتبدأ حياتي في التشكل شيئًا فشيئًا، حتّى نجحت إلى 3 ثانوي على مضض !، فأدخلني والدي - مجبرًا- إلى مدرسة أهلية لأختلط بالهايف وأنصاف الرجال، كان منظري بينهم في الفصل كالتفاحة الفاسدة ؟ عفوًا كالزبيبة بين العنب الأحمر، يخرق عيني انعكاس لمعة شعورهم الذهبيّة المسربلة، يسرحون شعورهم كما لو أنهم قادمون للثانوية الخامسة والثلاثون، وأنا أقدم لهم بعد بداية الحصة الأولى ملتحفًا شماغي وكأنني عامل باكستاني قَدْمَ لهدم جدار في هذه المدرسة !، ثيابهم بيضاء منيّلة، وأنا ثوبي أبيض وقد اصفرَّ بفعل الدهر وقد كنت أتعذر بحبي للنصر - ومن هنا بدأت حكاية حبي للنصر -، أقلامهم ملونة، يضعونها في حافظة جلدية للأقلام، وممحاة ومسطرة بنفس مقاس الحافظة الجلدية وعلبة هندسة لونها أسود تحسبها عُدة طبيب على وشك إجراء جراحة لا عُلبة هندسة، بينما أنا قلمي أزرق ناشف بلا غطاء ولا يكتب إلا لحسته وشفطته وفعلت معه ما يفعل المرء مع زوجه!، وعلبة هندسة ماركة ( العقيلي ) وكأنها عدة حجامة لا دراسة، وقلم رصاص أستعيره كل يوم من شخص وأتنكر أنني أخذته منه في نهاية الحصة !، كانت دفاترهم تفوح منها رائحة الإناث، وعلى وجه التحديد كان هناك طالب اسمه عبد الرحمن وكانوا ينادونه - الطلبة والمعلمين - بـ ( الدحمي ) وهو يفرح بهذه التسمية ويترنح لها وكأنه جارية جُلبت للتو إلى قصر الخليفة المأمون !، الدحمي هذا كان لديه دفتر رياضيات فصل يُشعل نيران الحميمية في داخلي، تخيّل أنني أقف في طابور المقصف ثم أتبلد لحظة وأفغر فمي لأن الدحمي قد فتح دفتره في الدور الثالث من المبنى في فصل 3 /1 ط، أخ يا ذلك الدفتر، كان يكتب في دفتر كشكول مع المعلم، ثم إذا ذهب إلى البيت يجعل أخته تنقل ما في دفتره الكشكول إلى دفتر الفصل، ويبدو أن أخته هذه كانت تغوص في اليوم 8 مرات داخل علبة عطر، أو أن أحبار الأقلام كانت مخلوطة بالعطور، رائحة الدفتر مفعمة بالحميمية والله، وكم أحسد الأرقام التي كم انطبقت على بعضها كلما أغلق دفتره، حتّى أنني قررت سرقة دفتره ذاك ورؤية ما فيه، ففعلتها وسرقته ذات يوم فجلب لي الخزي منذ أول وهلة، بدأت أتمايل وأتغنج في البيت ولم أخرج ذلك اليوم من بيتنا، وقد كفاني الله إذ مزّقته وأحرقته ونثرت رماده في الوادي وإلا لذهبت في المدرسة وأنا ألبس مريولا ً!، في اليوم التالي الدحمي بكى، تخيلوا !، شخص في 3 ثانوي يبكي !!، يبكي في الساحة ويصرخ ويتهم الجميع بسرقته، المصيبة أنني نجحت ُ بنسبة 97.45% من الثانوية العامة القسم الطبيعي والدحمي لم يكمل دراسته؛ عمومًا أنا من جلبَ النحس إلى تلك المدرسة الفارهة، فبعد تخرجي منها أُقفلت للأبد بسبب عدد من القضايا التعليمية والأخلاقية .

الاثنين، 5 أغسطس 2013

من بيتنا





بسم الله الرحمن الرحيم

لي أكثر من سنة أريد أن أكتب، أريد أن أكتب بقوّة، أمارس أنواع التعذيب بعقلي الباطن كي أكتب، لا ملام عليه .. فأنا لا ألهمه كثيرًا منذ فترة !، وأنا لا أريد كتابة شيئًا يشد القارئ أو يُعجبه !، أو يستشهد به أو يقوم بتمريره لأصدقائه لأنه أعجبه !!، لا ليس في هذا المكتوب، ليس في هذه الصفحة .. ليس هنا أبدًا.
كُنت في صغري أسقط صدفة على رسائل طويلة في خزانة والدي، رسائل مليئة بالطوابع البريدية التي تدل على مرورها بأقطارٍ عديدة، أُقلّبها وأنا لا أعرف القراءة جيّدًا، أنظر إليها وأحفظ صورها في مخيّلتي؛ وعلى ذلك نشأت لدي محبّة الرسائل الورقية، وقمت بدوري بإرسال العديد من الرسائل لأصدقاء يقبعون في أقطارٍ بعيدة عني، كُنت أكتب لهم وأُرفق في الرسالة صورة لباب منزلنا ولا أدري لماذا الباب تحديدًا وأطلب منهم كذلك أن يرفقوا صورًا لأبواب منازلهم، سواء كان شققًا سكنيّة أو منزلًا ريفيًا أو فيلا كبيرة أو حتى قصر!؛ كنت ولا زلت أرى أن أبواب المنازل هي عنوان الناس، كنت بمجرد النظر إلى أبواب منازلهم في الصور .. أتخيل حياتهم ومستواهم المعيشي وعدد جيرانهم و حالتهم النفسيّة وأحوال الطقس عندهم .. الخ !؛ عمومًا فباب بيتنا أزرقٌ فاتح وبه صدأ، وهو من طينة الأبواب القديمة، تقليده الهندسي يتبع التقليد العشوائي وبمزاج الحداد، لا يفتح هذا الباب إلا بدفعه بقدمك وشتمه بفمك.
نشأت كارهًا للمناسبات الاجتماعية، كنت في صغري أذهب مُجبرًا تحت سطوة القانون الأسري العريق ( ما راح تجلس في البيت لحالك ) !، لذا كانت والدتي حفظها الله تستخرج لي من خزانة الملابس ثوبًا أبيضًا نيليًا كثياب المعقّبين وتقوم بتسريح شعري للأمام وتضع لي كبكًا ذهبيًا ترى لمعته من على بُعد 4 كلم وكأنه عين فهد يرقب فريسته في منتصف الليل، ثم تطبع قبلة فوق رأسي وتقول ( الله يقاك من العين ) !، وأظنها تقصد عيون العميان، إذ أن لا شيء فيني تطمع أنفس البشر فيه ؟!، التسريحة أم الكبك أم الثوب النيلي إيّاه!؟؛ أذهب مع والدي وندخل قصر الأفراح وأجلس بجانبه مكشرًا وكأنني في أول يوم لي بالمدرسة !، يجيء العشاء ويسرق الصبية المشروبات الغازية .. أما أنا .. فتجدني أجلس عند دكان التسالي المحاذي لقصر الأفراح إيَّاه، بيدي اليمنى بطاطس واليسرى عود أسنان آكل به .
ونشأت كارهًا لها إي المناسبات الاجتماعية-، أكره الأعراس والمناسبات، أكره اهتمامات الناس واسئلتهم في تلك المناسبات ( نجحت ؟ ، وش تشتغل ، وين أبوك ؟ ، .. الخ )، وأحتقر كل الاحتقار المتحذلقين المنتقلين للتو إلى الحاضرة عندما يسألونك بكل فطانة ( بكم اشتريت ساعتك )، كما أنني أكره أولئك الناس الذين يُطلقون على ( الشماغ ) الأحمر مسمى ( غُترة ) !، وأكره أن أقابل أناسًا لأول مرة، لا أحبذ بناء جسر من العلاقات المؤقتة، ومجاملتهم لك بقولهم ( بالله كم رقم جوالك )، يسجله ليس لأن يتصل عليك .. بل كي يعرف رقمك ولا يرد عليك إنْ اتصلت به !؛ أكره حديثهم عن مشاريعهم الصغيرة كإنجاب الأبناء وترقيات العمل؛ للأمانة .. أصبحت الفرصة الوحيدة للاجتماع بالأقارب دون الخوض في الأحاديث هي المقابر ومراسم العزاء فقط.
أحتفظ إلى يومنا هذا بصورتي الأولى التي صورتها كي أنتظم في المدرسة الابتدائية في الحي، كنت ذاهبًا مع خالي، ولا تزال كلمة ذلك الرجل في التسجيل ترن في أذني كالجرس حين قال ( أنت خاله ؟ ، الخال جاذب ) !، وقد كان خالي هذا فاشلًا دراسيًا، ويبدو أنه جذبني في هذا الشأن !، عندما أنظر لصورتي في ملفي وأنا بعمر 5 سنوات ونيّف .. أرى في عيني بؤس أمة، وفي تسريحة شعري ثورة لصوص، وفي سحنتي انهزام كبير، أضف إلى ذلك الخلفيّة المخمليّة ذات اللون العنابي التي تصلح لغرف الإعدام بالغاز أكثر من خلفيّة تصوير؛ أول يوم لي في المدرسة يُشبه الدخول في حوش للخِراف، وانتقاءك لصديق العمر في أول يوم للدراسة يشبه انتقاءك لخروف الأضحيّة !، كانت تبعد المدرسة عن بيتنا ما يقارب 3 كلم، أخرج كل يوم وكأنني جندي نازي في آخر أيام الحرب العالمية الثانية، رأسي للأسفل وكل مصائب الدنيا تحدّني، كنت منتسبًا أكثر مني دارسًا، أصل للفصل وأسرح حتى نهاية العام الدراسي، حتى أنني في الابتدائي تغيّبت عن إحدى لجان الاختبار وأعادني أبي قبل فوات الأوان !؛ ورغمًا عن هذا كله .. فأنا لا أذكر أنني تغيّبت عن المدرسة يومًا، سواء كان الألم خدعةً ( آه بطني ) .. أم حقيقيًا، فأمي تجعلني أشرب ماء نبتة (الكمّون) مع الفطور والغداء والعشاء تحرزًا من آلام البطن، وهي تشهد لي بعدم الغياب أكثر من سجلات وزارة المعارف، ففي المرحلة الابتدائية لم أتغيب يومًا، وفي المتوسطة تغيّبت يومًا أو يومين لأن جدي توفاه الله، أما في الثانويّة .. فقد وصل الأمر إلى أن غبت عن المدرسة أسبوعًا بحاله !؛ ويشهد لهذه الحادثة الباكستاني يوسف في الدكان القريب من المدرسة .. إذ كُنا نبتاع الدخان من عنده ونفترش السجاجيد خلف الثلاجة وننام تارة وندخن تارة.
تجيء العطل الصيفيّة بالابتسامة لأبناء حارتنا كلهم .. إلا أنا !، فقد كانت العُطلة الصيفية بالنسبة لي حربًا باردة بيني وبين والدي، كنت الوحيد الذي يتمنى أن تستمر الدراسة طيلة السنة ولا تقف، كانت غرفتي ذات لون أزرق بارد لمّاع وفي زاويتها مكيف ينفخ الهواء البارد والبؤس، كنت أنام وأخي معي على الأرض، أخي هذا كان أصغر مني وأكثر إنسان منعدم الإحساس في الكون، فهو لا يريد أن يلعب ولا أن يُغامر ولا أن يُدخن، لا يعينه شيء ولا يُعينه شيء !!، كنت أنام بجواره وأنا ( تخنقني ) العبرة وتصكّ أعلى حلقي صكّاً جرّاء الضرب الذي أكلته بسبب حضوري متأخرًا للبيت في عطلة الصيف الملعونة !، كنت أحاول إخفاء تلك الدمعة التي تحاول الهروب من عيني إلى خدي الذي يشبه كعب رجلي من شدّة خشونته، لكن تفضحها إضاءة اللمبة الخضراء فوق الباب التي وكأنها لمبة غرفة اجتماعات !، يسمونها لمبة ( سهاريّة )، على الرغم من الفرق الشاسع بين التسمية و ( الوظيفة ) !، فهي موضوعة لكشف تحركاتنا فقط وليس لأجل السهر على اضاءتها الفاتنة مثلًا!!؛ كان أخي يرى الدمعة ويسألني ( وشفيك ؟ ، طاقينك ؟ ، ما جبت لبن ؟! )، فأنفجر بالبكاء فور انتهاء تساؤله العفوي .. لبن ! لأجل اللبن كُنا نُضرب حتى نبكي يا أخي !، كم أكره اللبن، لبن الري وحبيبات الزبد الصغيرة.

مع تقدمي في العمر، أول شيء عملته .. هو تغيير طلاء الغرفة إلى الأبيض الناصع، وإزالة اللمبة ( السهاريّة ) و وضع لمبة بيضاء تسر الناظرين مكانها، استبدلت المكيف بآخر ( سبلتْ ) لا يُصدر صوتًا عند تشغيله ولا ينقل أصوات الجيران معه، وضعت سريرًا جديدًا ورفيعًا، وجعلت أخي ينام في الغرفة الأخرى ليحمل معه آخر ما بقي من تعاسة؛ صرتُ أسهر حتّى الصباح .. ولا أنام إلا مستمتعًا على أصوات محركات السيّارات التي تستعد للانطلاق بالأبناء إلى المدارس، كنت أنظر إليهم مع شباك غرفتي وأنا أدخن وأضحك ودمعة حزن على حال الصغار وهم يهرولون إلى السيّارة وحقائبهم على ظهورهم كأنها مُعدات للقفز المظلي العسكري.