الاثنين، 5 أغسطس 2013

من بيتنا





بسم الله الرحمن الرحيم

لي أكثر من سنة أريد أن أكتب، أريد أن أكتب بقوّة، أمارس أنواع التعذيب بعقلي الباطن كي أكتب، لا ملام عليه .. فأنا لا ألهمه كثيرًا منذ فترة !، وأنا لا أريد كتابة شيئًا يشد القارئ أو يُعجبه !، أو يستشهد به أو يقوم بتمريره لأصدقائه لأنه أعجبه !!، لا ليس في هذا المكتوب، ليس في هذه الصفحة .. ليس هنا أبدًا.
كُنت في صغري أسقط صدفة على رسائل طويلة في خزانة والدي، رسائل مليئة بالطوابع البريدية التي تدل على مرورها بأقطارٍ عديدة، أُقلّبها وأنا لا أعرف القراءة جيّدًا، أنظر إليها وأحفظ صورها في مخيّلتي؛ وعلى ذلك نشأت لدي محبّة الرسائل الورقية، وقمت بدوري بإرسال العديد من الرسائل لأصدقاء يقبعون في أقطارٍ بعيدة عني، كُنت أكتب لهم وأُرفق في الرسالة صورة لباب منزلنا ولا أدري لماذا الباب تحديدًا وأطلب منهم كذلك أن يرفقوا صورًا لأبواب منازلهم، سواء كان شققًا سكنيّة أو منزلًا ريفيًا أو فيلا كبيرة أو حتى قصر!؛ كنت ولا زلت أرى أن أبواب المنازل هي عنوان الناس، كنت بمجرد النظر إلى أبواب منازلهم في الصور .. أتخيل حياتهم ومستواهم المعيشي وعدد جيرانهم و حالتهم النفسيّة وأحوال الطقس عندهم .. الخ !؛ عمومًا فباب بيتنا أزرقٌ فاتح وبه صدأ، وهو من طينة الأبواب القديمة، تقليده الهندسي يتبع التقليد العشوائي وبمزاج الحداد، لا يفتح هذا الباب إلا بدفعه بقدمك وشتمه بفمك.
نشأت كارهًا للمناسبات الاجتماعية، كنت في صغري أذهب مُجبرًا تحت سطوة القانون الأسري العريق ( ما راح تجلس في البيت لحالك ) !، لذا كانت والدتي حفظها الله تستخرج لي من خزانة الملابس ثوبًا أبيضًا نيليًا كثياب المعقّبين وتقوم بتسريح شعري للأمام وتضع لي كبكًا ذهبيًا ترى لمعته من على بُعد 4 كلم وكأنه عين فهد يرقب فريسته في منتصف الليل، ثم تطبع قبلة فوق رأسي وتقول ( الله يقاك من العين ) !، وأظنها تقصد عيون العميان، إذ أن لا شيء فيني تطمع أنفس البشر فيه ؟!، التسريحة أم الكبك أم الثوب النيلي إيّاه!؟؛ أذهب مع والدي وندخل قصر الأفراح وأجلس بجانبه مكشرًا وكأنني في أول يوم لي بالمدرسة !، يجيء العشاء ويسرق الصبية المشروبات الغازية .. أما أنا .. فتجدني أجلس عند دكان التسالي المحاذي لقصر الأفراح إيَّاه، بيدي اليمنى بطاطس واليسرى عود أسنان آكل به .
ونشأت كارهًا لها إي المناسبات الاجتماعية-، أكره الأعراس والمناسبات، أكره اهتمامات الناس واسئلتهم في تلك المناسبات ( نجحت ؟ ، وش تشتغل ، وين أبوك ؟ ، .. الخ )، وأحتقر كل الاحتقار المتحذلقين المنتقلين للتو إلى الحاضرة عندما يسألونك بكل فطانة ( بكم اشتريت ساعتك )، كما أنني أكره أولئك الناس الذين يُطلقون على ( الشماغ ) الأحمر مسمى ( غُترة ) !، وأكره أن أقابل أناسًا لأول مرة، لا أحبذ بناء جسر من العلاقات المؤقتة، ومجاملتهم لك بقولهم ( بالله كم رقم جوالك )، يسجله ليس لأن يتصل عليك .. بل كي يعرف رقمك ولا يرد عليك إنْ اتصلت به !؛ أكره حديثهم عن مشاريعهم الصغيرة كإنجاب الأبناء وترقيات العمل؛ للأمانة .. أصبحت الفرصة الوحيدة للاجتماع بالأقارب دون الخوض في الأحاديث هي المقابر ومراسم العزاء فقط.
أحتفظ إلى يومنا هذا بصورتي الأولى التي صورتها كي أنتظم في المدرسة الابتدائية في الحي، كنت ذاهبًا مع خالي، ولا تزال كلمة ذلك الرجل في التسجيل ترن في أذني كالجرس حين قال ( أنت خاله ؟ ، الخال جاذب ) !، وقد كان خالي هذا فاشلًا دراسيًا، ويبدو أنه جذبني في هذا الشأن !، عندما أنظر لصورتي في ملفي وأنا بعمر 5 سنوات ونيّف .. أرى في عيني بؤس أمة، وفي تسريحة شعري ثورة لصوص، وفي سحنتي انهزام كبير، أضف إلى ذلك الخلفيّة المخمليّة ذات اللون العنابي التي تصلح لغرف الإعدام بالغاز أكثر من خلفيّة تصوير؛ أول يوم لي في المدرسة يُشبه الدخول في حوش للخِراف، وانتقاءك لصديق العمر في أول يوم للدراسة يشبه انتقاءك لخروف الأضحيّة !، كانت تبعد المدرسة عن بيتنا ما يقارب 3 كلم، أخرج كل يوم وكأنني جندي نازي في آخر أيام الحرب العالمية الثانية، رأسي للأسفل وكل مصائب الدنيا تحدّني، كنت منتسبًا أكثر مني دارسًا، أصل للفصل وأسرح حتى نهاية العام الدراسي، حتى أنني في الابتدائي تغيّبت عن إحدى لجان الاختبار وأعادني أبي قبل فوات الأوان !؛ ورغمًا عن هذا كله .. فأنا لا أذكر أنني تغيّبت عن المدرسة يومًا، سواء كان الألم خدعةً ( آه بطني ) .. أم حقيقيًا، فأمي تجعلني أشرب ماء نبتة (الكمّون) مع الفطور والغداء والعشاء تحرزًا من آلام البطن، وهي تشهد لي بعدم الغياب أكثر من سجلات وزارة المعارف، ففي المرحلة الابتدائية لم أتغيب يومًا، وفي المتوسطة تغيّبت يومًا أو يومين لأن جدي توفاه الله، أما في الثانويّة .. فقد وصل الأمر إلى أن غبت عن المدرسة أسبوعًا بحاله !؛ ويشهد لهذه الحادثة الباكستاني يوسف في الدكان القريب من المدرسة .. إذ كُنا نبتاع الدخان من عنده ونفترش السجاجيد خلف الثلاجة وننام تارة وندخن تارة.
تجيء العطل الصيفيّة بالابتسامة لأبناء حارتنا كلهم .. إلا أنا !، فقد كانت العُطلة الصيفية بالنسبة لي حربًا باردة بيني وبين والدي، كنت الوحيد الذي يتمنى أن تستمر الدراسة طيلة السنة ولا تقف، كانت غرفتي ذات لون أزرق بارد لمّاع وفي زاويتها مكيف ينفخ الهواء البارد والبؤس، كنت أنام وأخي معي على الأرض، أخي هذا كان أصغر مني وأكثر إنسان منعدم الإحساس في الكون، فهو لا يريد أن يلعب ولا أن يُغامر ولا أن يُدخن، لا يعينه شيء ولا يُعينه شيء !!، كنت أنام بجواره وأنا ( تخنقني ) العبرة وتصكّ أعلى حلقي صكّاً جرّاء الضرب الذي أكلته بسبب حضوري متأخرًا للبيت في عطلة الصيف الملعونة !، كنت أحاول إخفاء تلك الدمعة التي تحاول الهروب من عيني إلى خدي الذي يشبه كعب رجلي من شدّة خشونته، لكن تفضحها إضاءة اللمبة الخضراء فوق الباب التي وكأنها لمبة غرفة اجتماعات !، يسمونها لمبة ( سهاريّة )، على الرغم من الفرق الشاسع بين التسمية و ( الوظيفة ) !، فهي موضوعة لكشف تحركاتنا فقط وليس لأجل السهر على اضاءتها الفاتنة مثلًا!!؛ كان أخي يرى الدمعة ويسألني ( وشفيك ؟ ، طاقينك ؟ ، ما جبت لبن ؟! )، فأنفجر بالبكاء فور انتهاء تساؤله العفوي .. لبن ! لأجل اللبن كُنا نُضرب حتى نبكي يا أخي !، كم أكره اللبن، لبن الري وحبيبات الزبد الصغيرة.

مع تقدمي في العمر، أول شيء عملته .. هو تغيير طلاء الغرفة إلى الأبيض الناصع، وإزالة اللمبة ( السهاريّة ) و وضع لمبة بيضاء تسر الناظرين مكانها، استبدلت المكيف بآخر ( سبلتْ ) لا يُصدر صوتًا عند تشغيله ولا ينقل أصوات الجيران معه، وضعت سريرًا جديدًا ورفيعًا، وجعلت أخي ينام في الغرفة الأخرى ليحمل معه آخر ما بقي من تعاسة؛ صرتُ أسهر حتّى الصباح .. ولا أنام إلا مستمتعًا على أصوات محركات السيّارات التي تستعد للانطلاق بالأبناء إلى المدارس، كنت أنظر إليهم مع شباك غرفتي وأنا أدخن وأضحك ودمعة حزن على حال الصغار وهم يهرولون إلى السيّارة وحقائبهم على ظهورهم كأنها مُعدات للقفز المظلي العسكري.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق