الثلاثاء، 6 أغسطس 2013

صديق العمر





عشتُ في الشارع، لكنني لم أتخذ فلانًا خليلا، ولم أضع الحشيشة مرة في فمي على الرغم من المرات العديدة التي رأيت فيها بعض الأصدقاء ( يفرطونها )، ولم أشارك في حملات التفحيط، ولم أضع العائلة يومًا في موقف محرج أو كُربة من كربات الشباب التي تسود لها الوجوه، وبالمناسبة وعلى الرغم من وجود ( السياكل ) في وقتي إلا أنني لم أمتلك واحدًا منها، فأنا أمقت كل من يملك سيكل، ولو أنه وسيلة تنقل رهيبة ودفعة رياضية مفيدة إلا أنني لم أقتنع بفكرة أن أضع مؤخرتي على تلك الوسادة الصغيرة وأجعل الرائح والغادي ينظر إليها !، بالرغم من صغرها وخلوّها من مسببات الفتنة !؛ كانت حياتي الدراسية سيئة جدًا، شارد الذهن على الدوام، أنتظر الفسحة لأدخن فقط، وأعود للفصل لأفكر من جديد في التدخين، لذا كان الدخان شغلي الشاغل وهمي القاتل، يقطع هذا التفكير أحيانًا تساؤل صديقي بندر عن أي مرحلة دراسية نحن فيها - من شدة ضياعه - فأحمد ربي على النعمة التي أنا فيها وفعلًا من يرى مصيبة غيره تتضاءل مصيبته في عينه .. أما بندر فمعه تختفي مصائبي كلها وتصير نسيًا منسيا، فبندر جمعَ الحمق والغباء والبلادة وخلطها مع سواده ورائحته العفنة ثم سكبها في إناء الجمود والسذاجة، فكان طبقًا لا يستطيع الإقبال عليه أحد، لذا كان صديقي الصدوق الذي لا يملك أي صديق آخر، وكي لا أبخسه حقه فقد كان هو الوحيد - حتى الآن - من يستطيع أن يُضحكني حتّى أنقلب على ظهري، زدْ على ذلك أنَّ أمه - بدريّة - هي من تجعلني أزحف على أنفي أتبع رائحة أكلها في أحياء الرياض، كان أكلها لذيذًا وكأنها تعلّمت الطبخ في دار من دور الخلافة العباسيّة، كيف لا وهي الوحيدة حتى الآن التي تقوم بـ ( رقْ ) المرقوق بيدها، بينما البقيّة يشترين قرصانًا جاهزًا فتفقد الأكلة نكهتها ؟!!، كانت تتعب في الطبخ، تؤدي بهمّة وكأنها في أولمبياد للأكل، تستخدم (بوتاجازًا) له أكثر من 11 عينًا والعين الواحدة يقعدُ عليها أكثر من 16 قدرًا، حتّى القدور تتلذذ بطبخ بدريّة وتتسابق لتحتضن وصفاتها وخلطاتها !!!، وربما لهذا السبب تزوّج عليها زوجها، فهي تولي الطبخ كل اهتمامها، وبندر - والله أعلم - كان نتاج طبخها لليمون الأسود!!.

 والديَّ لا يعرفان متى الاختبارات، أصلًا والدتي لا تُجيد القراءة ولا حتّى بطريقة براين وأبي منغمس في عمله الثقيل، فكان الحضور للمدرسة مجرد دوام بلا راتب، وهو فرصة لفرض النظام في يومي المشلول، ولأنني كنت أجيد الكتابة على الجُدران كونت ُمجموعة من الصداقات مع من يكبرني سنًا واتفاقيات في سبيل أن أكتب له على الجدار مثلًا ( أحبك يا عبادي، يا روحي يا حرف العين )، بخط متأنق يقرأه الأعمى، وأحيانًا أكتب مقابل مبلغ مالي خصوصًا إن كان الذي يُريد الخدمة لا يملك مواصفات الفزعة، فأشتري أبكاتًا متنوعة وأجرب هذا وذاك، حتّى أصبحت رئتي مثل كيس الفحم - كما أظن -، وتمر السنون.. وتبدأ حياتي في التشكل شيئًا فشيئًا، حتّى نجحت إلى 3 ثانوي على مضض !، فأدخلني والدي - مجبرًا- إلى مدرسة أهلية لأختلط بالهايف وأنصاف الرجال، كان منظري بينهم في الفصل كالتفاحة الفاسدة ؟ عفوًا كالزبيبة بين العنب الأحمر، يخرق عيني انعكاس لمعة شعورهم الذهبيّة المسربلة، يسرحون شعورهم كما لو أنهم قادمون للثانوية الخامسة والثلاثون، وأنا أقدم لهم بعد بداية الحصة الأولى ملتحفًا شماغي وكأنني عامل باكستاني قَدْمَ لهدم جدار في هذه المدرسة !، ثيابهم بيضاء منيّلة، وأنا ثوبي أبيض وقد اصفرَّ بفعل الدهر وقد كنت أتعذر بحبي للنصر - ومن هنا بدأت حكاية حبي للنصر -، أقلامهم ملونة، يضعونها في حافظة جلدية للأقلام، وممحاة ومسطرة بنفس مقاس الحافظة الجلدية وعلبة هندسة لونها أسود تحسبها عُدة طبيب على وشك إجراء جراحة لا عُلبة هندسة، بينما أنا قلمي أزرق ناشف بلا غطاء ولا يكتب إلا لحسته وشفطته وفعلت معه ما يفعل المرء مع زوجه!، وعلبة هندسة ماركة ( العقيلي ) وكأنها عدة حجامة لا دراسة، وقلم رصاص أستعيره كل يوم من شخص وأتنكر أنني أخذته منه في نهاية الحصة !، كانت دفاترهم تفوح منها رائحة الإناث، وعلى وجه التحديد كان هناك طالب اسمه عبد الرحمن وكانوا ينادونه - الطلبة والمعلمين - بـ ( الدحمي ) وهو يفرح بهذه التسمية ويترنح لها وكأنه جارية جُلبت للتو إلى قصر الخليفة المأمون !، الدحمي هذا كان لديه دفتر رياضيات فصل يُشعل نيران الحميمية في داخلي، تخيّل أنني أقف في طابور المقصف ثم أتبلد لحظة وأفغر فمي لأن الدحمي قد فتح دفتره في الدور الثالث من المبنى في فصل 3 /1 ط، أخ يا ذلك الدفتر، كان يكتب في دفتر كشكول مع المعلم، ثم إذا ذهب إلى البيت يجعل أخته تنقل ما في دفتره الكشكول إلى دفتر الفصل، ويبدو أن أخته هذه كانت تغوص في اليوم 8 مرات داخل علبة عطر، أو أن أحبار الأقلام كانت مخلوطة بالعطور، رائحة الدفتر مفعمة بالحميمية والله، وكم أحسد الأرقام التي كم انطبقت على بعضها كلما أغلق دفتره، حتّى أنني قررت سرقة دفتره ذاك ورؤية ما فيه، ففعلتها وسرقته ذات يوم فجلب لي الخزي منذ أول وهلة، بدأت أتمايل وأتغنج في البيت ولم أخرج ذلك اليوم من بيتنا، وقد كفاني الله إذ مزّقته وأحرقته ونثرت رماده في الوادي وإلا لذهبت في المدرسة وأنا ألبس مريولا ً!، في اليوم التالي الدحمي بكى، تخيلوا !، شخص في 3 ثانوي يبكي !!، يبكي في الساحة ويصرخ ويتهم الجميع بسرقته، المصيبة أنني نجحت ُ بنسبة 97.45% من الثانوية العامة القسم الطبيعي والدحمي لم يكمل دراسته؛ عمومًا أنا من جلبَ النحس إلى تلك المدرسة الفارهة، فبعد تخرجي منها أُقفلت للأبد بسبب عدد من القضايا التعليمية والأخلاقية .

هناك تعليقان (2):

  1. مقال جميل رغم رائحة الكآبة التي تفوح منه، أتمنى بأن تكتب لنا ما بعد الـ 97.45 .

    ردحذف
  2. يجيء وقتها بحول الله.

    ردحذف