الجمعة، 9 أغسطس 2013

بلاك ما تعرف السويدي


المملكة العربية السعوديّة
الرياض حي أم سليم
غُرة شوّال 1400هجري

ولادتي التي كانت في حي أم سليم، بالتحديد من بطن والدتي إلى الشارع الذي كان هو الحضانة وترابه هو سريري، أم سليم وقتها كانت كـبراشوف، بساطة موغلة في الفقر والعوز، الريال الذي كانت ألفه كي يبدو أكثر، وشراب الكعكي كولا أيَّام الجمعة، وجارنا اليمني السّكير، المُبكي في الأمر أنني في أيَّام الشتاء القارص كنت أخرج للمدرسة باكرًا عنوة كي ألحق على إفطار صديقي مبارك وجدته هيلة، الفول الحار الذي وددت أكثر من مرة أن أُلطخ نفسي به ليحميني من البرد الناشف الذي يَدُك العظم دكّا.
طلعات البر في منطقة بنبان و صلبوخ و ظهرة الزدْيّه لا تزال في الذاكرة بكامل تفاصيلها، الجاكيت الرصاصي المقلم، والثوب الأصفر، والشعر الذي لا ينبت أبدًا أكثر من 2 سم، الأشمغة الحمراء جدًا الأيادي المتسخة والأظافر السوداء، الخِراف النجديّة الكثيرة، الإبريق الرصاصي الكبير الأشهب، المطارح الصفراء ذات الورود الحمراء، والبطانيّات الخضراء العسكرية، العيشة الرضيّة، وأشرطة حجاب و خلف بن هذال وبشير، الحديث عن تلكم الذكريات أشبه ما يكون برسم لوحة في الهواء، بل أشبه بلعبة بدون كلام، حركات بلا معنى، وإيماءات مُعاق.

المملكة العربية السعودية
جنوب الرياض حي السويدي
صفر 1422 هجري

كلما ادلهمَّ الظلام، وخيَّم الهدوء وسَكَت صوت المؤذن بعد آذان العِشاء، كنت أخرج لأجوب الطرقات مع صديقي سعود على سيَّارته من النوع بيجو، تلك البيجو التي تنال في كل يوم كمًا هائلًا من الضحكات وحركات الاستهزاء من مالكها صديقي سعود، يقول أن هذه البيجو باستطاعتها الرجوع لبيتهم دون أن يقودها، وأنه لا يخسر شيئًا من الوقود لأجلها فهي آكلة للأعشاب؛ ليلة بعد ليلة، وعلى ظهر بيجو أحمر مائل إلى لون الحنَّاء الذي يخضب أصابع النساء، وطرقات السويدي الملفوفة بخرق سوداء، وأعمدة الإضاءة الصفراء الخافتة، والكثير الكثير من سيّارات الداتسون، شوارع السويدي التي يطوّقها الظلام حتَّى في أكثر ساعات النهار نورًا، مطابخ المندي والمظبي التي تُغذي بطون أصناف متعددة من البشر، الفقير والبسيط، السعودي والبنجالي، النصّاب والصادق، المختل عقليًّا والصحيح، والكثير جدًا من العزّاب؛ الحفريّات التي تُزين شوارع السويدي بُنيت على جثث جماعيّة لأقوام ماتوا من القهر والكَمد، سِرْ خصوبة الأراضي هناك بالتأكيد هو سَماد هذه الجثث؛ ومما يُثيرني في السويدي أنَّهُ ينفرد بالصدارة كونه أكثر الأحياء تفريخًا للإرهابيين.
قراءة حيّ السويدي لا يقوم بها إلا 5 أصناف من البشر، فإما عربيد مُفحط، أو إمام مسجد يُقيم الصلاة في غير وقتها، أو فقير يمشي على أربع من شدة الفقر، أو رب أُسرة لا يعرف أسماء أبناءه، وأخيرًا بنغالي مُخنث. وأنا من الصنف الثاني!.
فقد عرفتُ هذا الشيء الذي نسميه دينًا في سن التاسعة، عندما دعاني أحد الذين غابت شمسهم لحلقات التحفيظ في مسجد الحارة المجاورة، لا زلت أذكر تفاصيل تلك الرحلة تمامًا كانت في طريق المدينة المنورة، ركبنا سيّارة جمس تغص باللّحى والكثير من زمازم الشاي وحِزم الكتب و أوراق الأسئلة الثقافيّة، كانت الوجبة في تلك الرحلة عبارة عن بسكوت الشمعدان، كل 4 أشخاص في قطعة واحدة، أعتقد أنه كان تدريبًا عسكريًا بحتًا.
أعجبني فيهم الانضباط، وحُبهم لبعضهم أكثر من حبهم لأنفسهم، اعتزمت على الانخراط ونبذ كل أصدقائي الذين يُحرضونني على تفويت الحصص الأولى في المدرسة، وسرقت المال من جيب ثوب أبي وقت الظهيرة، نفث الدخان من الأنف والفم في آنٍ واحد، نعم نعم، أذكر المُحرض الأكبر فيهم، كان اسمه عَزَّام، كان بدينًا خسيسًا ويلبس دومًا فانيلة المنتخب الألماني الفائز بكأس العالم 1990م، كم مرة تمنيت أن أحصل على واحدة مثلها.
قضى الله أن يتبرَّعَ أحد المُتصدقين لبناء مسجد في الحارة بعد عامين، ولأن حارتنا تَعج بالمعتوهين من لوطيين ومشفطين ومجرمين لم يكن أمامهم إلا أن يختاروني مؤذنًا تحت التدريب، فكنت أرفعُ الآذان لصلوات العصر والمغرب والعشاء والفجر، أما الظهر فقد كانت المدرسة تمنعني من ذلك، بالرغم من أن فكرة ترك المدرسة راودتني كثيرًا عملًا بالقول ( من ترك لله شيئًا أبدله الله خيرًا منه ) لكن خوفي من مسدس الـ 9 ملم الموجود في خزنة الوالد كان يظهر لي دومًا كخلفيّة لهذه الفكرة؛ كنتُ أحيانًا أرفعُ الآذان وأُقيم الصلاة إمامًا، كنتُ أحفظ من كتاب الله ما يقارب العشرة أجزاء تلفتت الآن– لا حول ولا قوّة إلا بالله تمامًا، حتَّى أني الآن أحيانًا أُخطئ في الكوثر؛ الكثير من اللوم والعتاب وجهَ لي بسبب رفعي لصوت المُكبرات فوق المئذنة حتَّى أجعلها تصل لأذن عزَّام وحاشيته، ليس لأجل أن يهتدوا مثلًا ولكن نكايةً بهم.
للأسف أني انخرطت في سلم الدين بشكل سريع، بسرعة البرق، فلم تعد تُعجبني حلقات التحفيظ وكثرة المنتسبين ومن بينهم عزَّام - لها لأجل كسب ود القاصر محمد، أو المكتبات التي تجعلك كابن بطوطة، كل ساعة في مدينة، وكل دقيقة قطّة، ففضلتُ الانعزال التَّام، حيث حددت موقفي بأن يكون إمامًا للمسجد وصديقًا لمجموعة من اللِّحى الغانمة كما اسميهم -، وكنت أقضي أيَّام الأسبوع إمَّا غارقًا في قراءة التراجم والتفاسير أو نائمًا أو مُمسكًا بفنجان قهوة وأتبادل الحديث مع والدتي حفظها الله -، أما أيَّام عطلة نهاية الأسبوع فكانت في البَر، والبَر فقط حتَّى في شدَّة القيظ، كنَّا نحتمي من حرارة الشمس في مغارة كبيرة بإحدى القرى القريبة من مدينة الرياض!.
وهكذا سارت السنون، ومرت مثل مر السحاب، سريعة وهادئة، كأنَّها رسم تخطيطي لقلب إنسان متوفى، مستقيمة و صامتة.
ومَنْ مِنَّا لا يعرفُ مدرسة الإمام الجوهري !!، مجرد مرور هذا الاسم) ثانويّة الإمام الجوهري ) يجعلني أُحلِّقُ في فضاء مليء باللِّحى، الكثير من المنشوّرات، الضدان يجتمعان في هذه المؤسسة التعليمية / التدريبيّة، السافل اللئيم المنافق الكافر والمتدين المتطرف جدًا، لا يوجد حل وسط في هذه المدرسة، حتَّى الطاولات والكراسي، التحقت بتلك المدرسة الثانويّة، مرَّت السنة الأولى التي كان يُدرسني فيها مادة الأدب قريبٌ لأحد المطلوبين، الأستاذ/ عبد الرحمن، القصير صاحب اللّسان السليط، لم أكن أعرف وقتها ما هي ( يا مسهرني، ألف ليلة وليلة، سيرة الحُب )، كان يخرج عن الدرس كثيرًا ليتحدث عن أم كلثوم هذه، كنتُ أظن في بداية الأمر أن المقصودة هي بنت رسول الله رضي الله عنها -، وتداركت بعد ذلك أن المقصودة هي مُطربة!!.
كان الأستاذ/ عبد الرحمن عندما يدخل الفصل يضعُ شماغه بشكل ( لطمة )، كان (عربجيًّا ) لا محالة، يطلب منّا باستمرار قراءة القصائد ونحن نستمع لأم كلثوم، والذي يُسمع له أغنية كاملة من أغاني أم كلثوم ستكفيه عن حفظ قصيدة من قصائد المنهج المُقرر، صدقًا.
أهداني هذا العبد الرحمن أوَّل كتاب غير ديني -، كان الكتاب بعنوان ( في سبيل التاج ) لمصطفى لطفي المنفلوطي، وكتب عليه الإهداء التالي:
إلى الطالب النجيب: .............................
أيامٌ جمعنا فيها العلم، علّنا عليه نفترق.
أُستاذك / عبد الرحمن
حقيقة، لم أكن أنا الوحيد الذي نال هذه الهديّة، كان هناك طالب آخر اسمه/ سعود، ولكن كتاب سعود كان مختلفًا، كان مجموعة من أوراق الـ A4، وفيه جميع كلمات أغاني أم كلثوم، لا أخفيكم تمنيتُ جائزته، لا لشيء إلا لرغبتي في حفظ أغانيها لأجل درجات المادة.
حصلت على تقدير ممتاز في الصف الأول ثانوي، ومن العشرة الأوائل على الصفْ، والثالث على الفصل؛ سعود أخفق في اجتياز الأول ثانوي، الطّامة أن سبب رسوبه كانت مادة الأدب .
في عائلتنا، يُعتبر عيبًا أن تنتسب للقسم الأدبي / الشرعي، يجعلك ذلك تحت دائرة الضوء، كأنك رجل متزوج وأمضيت 4 سنوات بلا أولاد، نعم صدقوني، نظرة قاصرة أعرف ذلك، لكن ماذا أفعل؟!.
كانت رغبتي هي مواصلة الدراسة في القسم الطبيعي / العلمي، لكن محاولات الأستاذ عبد الرحمن لأجل إقناعي والانتساب في القسم الشرعي كادت أن تفلح لولا استعانتي بوكيل المدرسة و رئيس الهيئة في نفس الوقت الأستاذ والجلّاد في آنٍ واحد / صالح الذي فكّني من عبد الرحمن و بلاويه.
أكملتُ الدراسة وتخرجت من الثانويّة العامة، بتقدير "جيّد !!!".
أنا الذي كنت لا أرضى إلا برؤية اسمي في لوحة الشرف مقابل المقصف، وشهادتي تقديرٍ وتفوّق في نهاية كل شهر، أحصل على تقدير " جيّد " مع الرأفة، أنا الذي أحفظ أجزاءً من القرآن أحصل على 51 فيه!!. في الأمر سِرْ!. نعم؛ وأنا اليوم أوشك على إذاعته، وأنْ يكون خبرًا.
تُرى، هل فكّرتُ، ذات يوم، بأن سعود الغبي وعبد الرحمن الأخرق، الصديق والأب الروحي، كانا إنسانين يملكان حياةً أخرى، غير التي أراها؟!.
تصرفاتهما زادت غرابة، والأسئلة حولهما تعددت، بشكل استدعى أن ابتعد ابتعادًا كاملًا عن إمامة المسجد، وانصرف عن كل ما يمت للدين بصلة؛ والجدير بالذكر هُنا، أن سعود الغبي صار ذكيًّا وعبقريًا ومضطلعًا في علم المتفجرات، وعبد الرحمن الأخرق كان ذا دعمٍ لوجستي لا يقوم به جنرال من جنرالات الجيش الأمريكي؛ قُبض على سعود وكذلك عبد الرحمن، كلاهما يقبعان الآن في السجن منذ أمد طويل !! كلاهما يَسبق اسمهما الوصف ( إرهابي ).
سعود البدين، المتذمر والخامل يفعل هذا كله، أيّ قوة في الأرض تستطيع تلوينه هكذا، وعبد الرحمن الأخرق، السمّيع لأم كلثوم، يسكن داخله رجل كهذا، عشتُ باقي مراحل الدراسة الثانويّة وأنا كالأعشى، الليل يمشي بآنائهِ وأنا أُحملق في الإهداء الذي كتبه عبد الرحمن بخط يده على مجلّد كتاب ( في سبيل التاج )، والصبحُ يسربل أشعته وأنا مسمِرٌ ناظريَّ في صور الرحلات البريّة مع سعود وهو يطبخ، كنت أتوقعه لا يجيد غير الطبخ والنفخْ!!.
هذا ما تفعله أرض حيّ السويدي بالسكّان المتعطشين لكل أمرٍ غريب !! ولا عجب في هذا، فهم قومٌ يهيمون في شوارع ممدودة متسخة لا نهاية لها قد اعتبروا، مُذ أبصروا النور هناك، أنَّ نهاية شارع الأبراج هو نهاية هذه الدنيا، وأنَّ ما بعده برزخٌ لا خير فيه، هذا الإحساس يجهلهُ من عاشَ فِي حيّ الشفا والدخل المحدود، أو المُترفين في شماليّ الرياض وشرقيه؛ وبقي إجلالهم للمساجد المبنيّة من ( الشينكو ) الرخيص حتَّى يومنا هذا.
عزَّام، ماتَ أبوه تاركًا وراءهُ ثلاثة أبناء رابعهم عزَّام وهو أكبرهم، فأثقلوا كاهله أيما إثقال، حتَّى وصل الأمر به إلى أن يتجاوز نهاية طريق الأبراج طلبًا للرزق، فحاول في كبائن الهاتف ولم يُفلح، وعَمل في المبيعات لدى محلات البطحاء ونال نصيبه من الفشل الذريع، فما كان منه إلا أن يُتاجر أخيرًا في بيع الحبوب و صواريخ الحشيشة، وها هو اليوم أصبح أعظم شأنًا من ذي قبل وأطولنا باعًا في التجارة وذا تأثيرٍ كبير في الحارة.
إنَّ أكثر الأمور عجبًا وغرابة هو أن تلك المخيّلة الخلَّاقة المُبدعة للأستاذ عبد الرحمن لا تزال تراودني مع كل أغنية لأم كلثوم، وكل كتاب يقع بين يدي؛ وعبقريّة سعود تزورني كلما شاهدتُ أكواع المواسير الصدئة و الألعاب الميكانيّكية الذكيّة.
وإلى جانب هؤلاء كلهم، يقبع موسى في بيتهم كالآنسة، ويتفرغ بيركامب البدوي لمتابعة القنوات الأوروبيّة الجنسيّة، ويكرّس عبد الله حمد وقته لتلميع سيّارته الهوندا، ولا يدرون بما حصل.
هناك أسئلة عديدة تردني دومًا من الأصدقاء بعد إلقاء هذه القصة، أسئلة تطرح نفسها على العقول بذاتها : كيف يمكنك العيش بعد هذا كله، كيف تمكنت من الوصول إلى هذه البحبوحة من العيش، والانطلاق تلك الانطلاقة الشمّاء، والتفرد؟!.
كانت إجابتي تقتصر دومًا على القول: " بلاك ما تعرف السويدي!!".

هناك تعليق واحد:

  1. اكاد اجزم انك مررت بفترة تصلي المغرب والعشاء في مسجد الشيخ فهد الغراب ..حيث تجمع الصحبة الصالحة ..
    اذكر حينها من كان يحرم الوظيفة الحكومية ..لان له نظرته ضد الحكومة ومنهم من الف كتب ..وفي الآخر اجدهم قد انحرفوا واصبحوا شبه ليبراليه..اخذتهم الشهرة وانه يشار له بالبنان..تباً تبا..يوسف العتيق اريد ماذا حل به.سبحانك ربي اغفر لي ذنبي.

    ردحذف